زهدت ماما بالدنيا وما فيها وصادقت ماكينة الخياطة القديمة مجددا بعد ان ساءت احوال عمل والدي جراء الحرب ومخلفاتها. وكانت ماما تجد الوقت لتخيط لنا ولزبوناتها اللواتي كن يتكاثرن يوما بعد يوم لان ماما مبدعة ولان ماما ملاك ولانهن يعشقنها.
ماما كانت تجد الوقت الكافي في جدولها المزدحم للاستيقاظ باكرا وتجهيز فطورنا الصباحي وطعام المدرسة المختلف كل يوم. كانت تعد مائدة الغداء كل يوم بنفسها على الطريقة اللبنانية "يعني مازة واطايب"، وتخبز ما لذ وطاب من الحلويات ايضا، وتقيم الدعوات وحفلات اعياد الميلاد، وتجهز المائدة بكل ما فيها بنفسها... نعم كانت تجد الوقت لكل ذلك.
وكانت بعد ان ننام تعود الى ماكينة الخياطة الى ان يغالبها النعاس. زلفا هي ام مثالية لنا، ولم يعلمها احد ذلك، لا جدتي ولا اية كتب او مجلات او برامج تلفزيونية او اذاعية.
كانت دوما بارعة في تعليمنا الصح من الخطأ.
تتوقعت ما سيحدث قبل حدوثه لانها حكيمة ولها بعد نظر وتحليل سليم للاحداث من حولها.
صادقتنا في رحلة تربيتنا وصادقت اصدقاءنا لتبقينا قريببين منها.
هي منظمة الى ابعد الحدود وقبل ان اتعرف الى افكار IKEA في التوضيب والترتيب كانت افكار زلفا سباقة بسنوات.
زلفا تعلمت الرسم والاشغال اليدوية وزينت بيتها وعلمتنا خلال الحرب لننسى الخوف ونتسلى.
مدبرة منزل خمس نجوم، تهتم بالتفاصيل. نظيفة ودقيقة، وكل ما تعتقد انها ستحتاجه يوما، تخبئه في مكان ما وتقول "بيت السبع ما بيخلى من العضام"! معها حق... واحتفظت بعظامها الى ان اصبحنا نراها كراكيب وتخلصنا منها عندما قررت ماما اعتزال حياتها العملية السابقة، حياة التعب.
لم تكن ترمي شيئا ذا فائدة ما. كانت بيئية من الدرجة الاولى قبل انتشار الوعي البيئي في المجتمع بسنوات طويلة. تعيد استخدام كل شيء ممكن وتعيد تدويره. فملاءات السرير القديمة تصبح غطاء الوسائد وبدورها محارم للمطبخ تستخدم طويلا قبل ان ترمى.
المناشف الكبيرة القديمة تصبح اصغر حجما لاستخدامات مختلفة قبل ان ترمى بدورها.
كانت تصنع لنا كل شيء! غطاء السرير الملون الذي لطالما احببته جمعته من عشرات قطع الاقمشة المختلفة التي لم تكن نافعة في شيء لوحدها لكنها شكلت لوحة فنية مبتكرة مجتمعة!
كنت اعترض احيانا على ابتكاراتها رغبة مني بشراء شيء جاهز من السوق، لكن ماما ادارية جدا ولا تسمح بصرف المال في غير مكانه خاصة وان الوضع الاقتصادي العام كان مترد وانها كانت تتعب جدا هي وابي للحصول على المال والمصاريف كانت كثيرة.
وماما في ذلك كانت محقة لذلك فان كل امنياتي الشرائية كانت مؤجلة.
فان اعجبتني اية ملابس في السوق، آخذ ماما لتراها وتخيط لي مثلها او احلى منها.
فقط الاحذية لم تصنعها ماما...
كانت تعرف الدواء لكل داء... تقريبا! وكانت خبيرة في سكب الرصاصة للوقاية من صيبة العين.. آمنت فيها كثيرا في سنوات تربيتنا.لم تكن فقط طبيبة وخياطة وطباخة ومربية و... بل كانت حلاقا ايضا تقص شعرنا افضل من اي حلاق وتقول ان التفصيل والخياطة ساعداها في اتقان "القص".
بيتها كان مفتوحا دوما لكنها في المقابل لم تلق بالا ابدا بالصبحيات اللبنانية الشهيرة ولم يستهوها فنجان القهوة ابدا.
كانت ترعى نباتاتها وعصافيرها كما ترعانا.
تحملت حماتها صعبة المراس لسنوات طويلة ولا تزال لانها تحب زوجها حبا جما ولانها لم تستطع خدمة امها وهي على فراش الموت.
لم تترك بيتها يوما لاي سبب من الاسباب..
وعندما بدأت عملي في الاذاعة كانت داعمي الاول وناقدي الاول ومسؤولة ارشيفي.
اشتاقها في كل لحظة، انا في الشارقة وهي في بيروت، واعلم انها تحمل همي وهم ابنتي في قلبها في كل لحظة ايضا. تصلي لنا، تضيء شموع قلبها وروحها وتتضرع للعذراء والرب في كل يوم وتسأل القديسين الشفاعة عل جنى تشفى.
وقت ماما المنظم جعل ايامها تتسع لكل تلك النشاطات التي كانت تتقنها جميعا.
حاولت ان تجعل منا عونا لها في البيت في مرحلة ما باغراءات مادية ايضا: خذوا المال انتم مقابل عملكم بدل ان تأخذه خادمة، ان لم تعملوا لن تنالوا مصروفا!
اتصدقون ان احدى ضيفات اوبرا وينفري عرضت هذه الفكرة في كتاب للتربية؟ الم اقل لكم ان ماما سابقة عصرها؟
خير الامور الوسط بالنسبة لها والباب اللي بيجيك منه ريح سدو واستريح واعمل عملك باتقان ولو كان سخرة! حكما اعتمدتها في حياتها الهنيئة لليوم.
اعترف ان صديقاتي وقريباتي حسدنني عليها واني لم اقدرها حق قدرها وانا في حضنها.
لكن عندما اجتاحت الامومة حياتي، اصبحت ماما زلفا بطلي الاوحد ومثلي الاعلى!
معدل وليد العام في السنة الدراسية المنصرمة لم يلامس الثمانين الا ربما مرة واحدة وهو في الصف الثاني، لطالما آلمني ذلك لاني اعلم انه ذكي ومع قليل من التركيز يستطيع تفادي الاخطاء البسيطة التي يقع فيها ويستطيع ان يلامس التسعين من مئة بكل سهولة. كما انه لا ينام باكرا ابدا ما يسبب بعض التعب والارهاق ربما لطفل في الثامنة ويفقده التركيز.
الطريف في الموضوع ان وليد يعلق على حزني وغضبي من معدله العام ب "وما المشكلة في ذلك ماما؟ صراحة هذه قدرتي!" وانا اجن لاني اعرف ان هذا الاداء هو ربع قدرته. ويعلق على مقارنتي اياه بجاره المتفوق ب " انا لست هو لكني ايضا ولد ذكي، اليس كذلك؟" وحين اصر على المقارنة بان الجار ينام باكرا جدا ويدرس كثيرا جدا ايضا يرد وليد: "كفي عن المقارنة" بغضب وحزن شديدين... صراحة وليد عنده حق. فان كانت حياته كلها دراسة في دراسة فكيف سيعيش طفولته وسنه وبراءته. يبدو انه على تقبل معدله و"قدرته" وان احبه دون قيد او شرط كما تفعل باقي الامهات اللاتي يردن الافضل لابنائهن، مثلي تماما.
في هذا اليوم الثاني عشر من نوفمبر 2012 كنت في زيارة لمدرسة وليد. سبب الزيارة انه يريد شراء دفتر صف من مكتبة المدرسة لا يسمح به لمن هم دون الصف الخامس. وبعض رفاق وليد حصلوا عليه من خلال اخوانهم الاكبر سنا. امضى وليد الايام العشر الماضية يحدثني عن اهمية هذا الدفتر الملقب ب detention book لاسباب لا اعرفها تماما، ربما لان بعض الاطفال الاكبر سنا المسؤولين عن النظام يستخدمونه لتدوين العقوبات... المهم ام وليد بعد ان تحدث عن هذا الدفتر مرارا وتكرارا ويبدو انه رسم خطة الحصول عليه في مخيلته، فاتحني بما يتمنى وقال: اريد ان اسالك سؤالا وعادي ان قلت نعم او لا. فرديت: ما هو حبيبي؟ فقال: اذا اتيت الى المدرسة بامكانك شراء detention book لي لانك ام وكبيرة ولن يقول لك البائع لا. فسالته الا ينفع ان نذهب الى المكتبة القريبة غدا ونشتري ما هو مشابه؟ فسأل ولم لا نذهب الآن؟ وقد كان الوقت متأخرا وانا لا ارغب باللبس والخروج، فرديت لكن الوقت متأخر ولا ارغب بالخروج الآن. ووليد معروف عنه انه يصر على ما يريد الى ان يحصل عليه. غضب وثار وحزن، فسألته وما المميز في هذا الدفتر حبيبي ولماذا تريده بالحاح وماذا ستكتب عليه؟
قال هو كبير وفيه حديد ويستخدمه الطلاب الكبار في ال detention. لم ار سوءا في قبولي لطلبه خاصة انه لم يشاغب ودرس كل دروسه في هذا اليوم، فوافقت على ان نلتقي الساعة 12 ظهرا في مقصف المدرسة. وهذا ما حدث.

عندما رن جرس فرصة الغذاء بدأت اراقب الطلاب الداخلين الى الكافيتيريا علني المحه، اريد بشدة ان ارى تعابير وجهه حين يراني، فانا لا اكذب عليه ابدا و لا اخذله على ان يقدرني ربي ان استمر في ذلك. وعندما دخل ورآني ركض ناحيتي وضمني وقبلني، فرحت فرحا شديدا لاني كنت اعتقد ان الصبيان يخجلون من ضم امهاتهم امام اصدقائهم فكيف بالحري تقبيلهم؟ سألت ان كان يريد ان اشتري لع طعاما وسألته اين حقيبة الطعام فقال نسيتها في الصف وقاطعني وقلبه يرقص من الفرح "اتعلمين كم هو معدلي العام هذا الشهر؟" فصرخت: لديك العلامات؟ كم هو معدلك؟ فقال بكل فخر: 84! انهمرت دموعي من فرط السعادة لان معدل الشهر الماضي كان 75! حضنته وقبلته وكلمت والده فاخبره وليد بنفسه بالنتيجة ليسمع من بابا"انا فخور بك! وانا احبك كثيرا ولك ما تريد من هدايا! احسنت يا وليد!" وهذا التشجيع من بابا اثار حماسته فنسي الطعام ونسي الهدف من زيارتي وصرخ "ساذهب الآن الى الصف لاحضر الاوراق لتريها بنفسك." فرحت فرحا شديدا لانه لم يرسب في اية مادة! وقلت له بفرح لك اليوم ما تريد يا وليد! انت ولد رائع! اشتريت له الطعام وتناولناه سويا ثم ذهبنا الى المكتبة واحتلت على البائع لشراء دفترين من ذلك ال detention book لوليد وصديقه وكانت فرحتهما به لا توصف كمن اشترى لهما محل العاب رمته، حضناه ودارا بين الزملاء الذين تجمهروا حولهما وانا اراقب من بعيد، تارة يكتبون وتارة ينزعون ورقة ويصنعون منها صاروخا او قارب او لعبة ورقية اخرى يسمونها chip shops كنت العبها في صغري ايضا... المهم ودعته من بعيد لاغادر فصرخ ماما وركض ناحيتي وحضنني وضمني بشدة وقبلني، وصراحة "كانت الدني مش سايعتني" تناولت مئة درهم واعطيته اياها وقلت اشتر ما تريد لك ولاصدقائك، احتفل بنجاحك اليوم. وغادرت.
عندما رجع عصرا الى البيت اعاد المئة درهم فسألته لم لم يشتر شيئا فرد انه قرر شراء سترة المدرسة لكن المخزن كان مقفلا. ولسترة المدرسة قصة اخرى كون وليد قد اضاع 4 سترات في العام الدراسي الماضي ولما اشتريت له اخرى جديدة لهذا العام الدراسي الحالي حذرته ان اضاعها فلن اشتر اي سترة اخرى، وقد ضاعت فعلا! فقرر استخدام ماله بحكمة. يبدو انه يشعر فعلا بالبرد في الصف.

بعد ان استراح وقبل البدء بالدرس قال وليد ماما اريد حقيبة مدرسية جديدة وافقت في الحال لان حقيبته الجديدة كسرت بفعل وزن الكتب الكبير وهو يستخدم اخرى صغيرة قديمة. فرح جدا واشترط ان نذهب الى متجر قريب، لكنه لم يجد مبتغاه في المتجر القريب وكنت سآخذه الى متجر آخر لكنه وجد دراجة اعجبته وطلب شراءها ولانها ضمن الميزانية وافقت في الحال على ان نذهب الى البيت في الحال وكان هذا ما يريده حتى يلعب بها ويريها لاصحابه. وحذرته ان شقيقته جنا ستعجب بها وترغب ان تقودها فوافق في الحال وبكل محبة... وعندما دخل البيت سأل ان كان يستطيع اخذ الايباد معه الى طابق الالعاب فوافقت في الحال ايضا فانفرجت اساريره مرة اخرى وسأل "عن جد" قلت طبعا لانك متفوق اليوم ولك ما تريد فقبلني وسألته ان كان سيدرس بعد اللعب فرد بالايجاب وفعلا لم يعترض كعادته على الدرس ولم يشاغب ولم يضيع وقته. وقبل النوم اجرينا جردا على الاحداث الايجابية لنخلص انه ينال ما يريد حين يدرس ويسمع كلام ماما.
وتصبحون على خير...